أما عند تطبيق الحكم على المعين، فإنه يجب ملاحظة أن الناس يتفاوتون في الحكم عليهم بحسب أحوالهم، فلو أن عالماً درس الشريعة وأخذ عليها الشهادات، وهو يعد من العلماء، أفتى بأن الخمر حلال؛ فإنه يكفر، ولا يُتردد في تكفيره؛ لأنه عالم، لكن لو أن رجلاً جاء من البادية وقال: أنا مسلم، وهو يرى أن الخمر حلال، أو أن الزنا حلال؛ فإنه يعذر ويُعلَّم.
فهناك فرق بين الناس بحسب البيئات وبحسب الأحوال عند التطبيق، كما سيأتي شرحه كاملاً، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع حتى يكفر المعين بذاته، لكن من حيث الحكم العام فإنه يطلق على الفعل بأنه كفر، ومن بُين له الدليل وقامت عليه الحجة وأصر على الإنكار، فإنه يكفر، أي: أن من بين له الدليل على أمرٍ محرم فأصر، فإنه يكفر، وهذا من باب كفر العناد، لكن ينبغي ألاَّ نخلط بين من عاند ورد الدليل وعنده شبهة، وبين من رده دون شبهة، فمن لم يكن لديه شبهة ورد الآية أو رد الحديث، أو ردهما معاً، وأصر على رأيه ولم يقبل الإذعان لأمر الله ورسوله، فهذا هو الذي يكفر، وأما المتأول وهو الذي يرد الدليل، وعنده دليل آخر، ولكن لا دلالة فيه، وهو يرى أنه دليل بالنسبة له، كأن يستدل بكلام عالم من العلماء، وهذا العالم مخطئ ولا يجوز تقليده، أو قد يكون كافراً مرتداً ولا يؤخذ بكلامه، لكنه يرى أنه إمام معتبر؛ فهذا يسمى متأولاً.
وكلامنا هنا إنما هو فيمن يرد الآية أو الحديث رداً بلا شبهة ولا تأويل، وهذا يدخل فيه أمور قد تساهل فيها بعض الناس، فمثلاً: هناك أشياء يرى بعض الناس أنها سهلة ولا محذور في إتيانها، فإن كان دافع المرء لإتيانها الإنكار والجحود ورد الأدلة؛ فإن الأمر خطير جداً - نسأل الله العفو والعافية-؛ لأنه ينافي أصل الإيمان؛ إذ أن أصل الإيمان هو الإذعان والانقياد والرضا، فإذا لم يوجد عنده أصل الإيمان أو الإذعان فإنه يكفر، وإن كان العمل في الأصل لا يكفر من فعله إن كان محرماً، أو من تركه إن كان واجباً، لكن إذا لم ينقد للأمر في ذاته وفي نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يكفر، ولهذا قلنا: إن الطائفة الممتنعة عن أداء الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة تقاتل قتال ردة؛ لأن اجتماعها وامتناعها ومقاومتها للحق ليس مجرد عصيان ومخالفة غير مكفرة، وإنما هو كفر ناتج عن اعتقاد؛ لأنها رد للحق، وهذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب فقال: ((وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ))[التوبة:29]، فقوله: (لا يدينون دين الحق) لأنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول -عياذاً بالله من هذا الزيغ والكفر- وهذا واضح، لكن زيادة على ذلك فإنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ فإنهم يشربون الخمر، ويأكلون الخنزير، وهذا من أسباب كفرهم، مع أنهم كفار في العقيدة، لكن الكفر تجتمع له أسباب كثيرة، فالنصارى مثلاً يكفرون بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وأيضاً يكفرون باستحلالهم أكل الخنزير، وشرب الخمر.